فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 6):

{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
الاستثناء بقوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم}. قال الزجاج: إنه يعود إلى قوله: {بَرَاءةٌ} والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم.
وقال في الكشاف: إنه مستثنى من قوله: {فَسِيحُواْ} والتقدير: فقولوا لهم: فسيحوا، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم، فأتموا إليهم عهدهم. قال: والاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وهو: {وَأَذَانٌ مّنَ الله} إلخ.
وأجيب بأن ذلك لا يضرّ، لأنه ليس بأجنبي. وقيل: إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله، فيكون متصلاً وهو ضعيف. قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} أي: لم يقع منهم أيّ نقص. وإن كان يسيراً، وقرأ عكرمة، وعطاء بن يسار {ينقضوكم} بالضاد المعجمة، أي لم ينقضوا عهدكم، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده. ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدّته {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً} المظاهرة: المعاونة: أي لم يعاونوا عليكم أبحداً من أعدائكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي: أدّوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص {إلى مُدَّتِهِمْ} التي عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الماكثين على القتال بعد مضي المدّة المذكورة سابقاً، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق.
قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} انسلاخ الشهر: تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال: سلخت الشهر تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى: خرجت منه، ومنه قول الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ** كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي

ويقال: سلخت المرأة درعها: نزعته، وفي التنزيل: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37].
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم.
وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر.
وروي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير. وقيل: المراد بها: شهور العهد المشار إليها بقوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} وسميت حرماً، لأن الله سبحانه حرّم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرّض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم: مجاهد، وابن إسحاق، وابن زيد، وعمرو بن شعيب. وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: {فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسديّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله. ومعنى: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}: في أيّ مكان وجدتموهم من حلّ أو حرم. ومعنى: {خذوهم}: الأسر، فإن الأخيذ هو الأسير. ومعنى الحصر: منعهم من التصرّف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدوّ، يقال: رصدت فلاناً أرصده، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها. قال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما أخالك عالما ** أن المنية للفتى بالمرصد

وقال النابغة:
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ** وإن المنايا للنفوس بمرصد

وكل في {كُلَّ مَرْصَدٍ}: منتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج، وقيل: هو منتصب بنزع الخافض: أي في كل مرصد، وخطأ أبو عليّ الفارسي الزجاج في جعله ظرفاً. وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك، لا يخرج عنها إلا من خصته السنة، وهو: المرأة، والصبيّ، والعاجز الذي لا يقاتل، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم.
وقال الضحاك وعطاء والسديّ: هي منسوخة بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4]. وأن الأسير لا يقتل صبراً بل يمن عليه أو يفادي.
وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل.
وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. قال القرطبي: وهو الصحيح؛ لأن المنّ والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أوّل حرب جاء بهم وهو يوم بدر. قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} أي: تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل، وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات، لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات، لأنه أعظمها {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي: اتركوهم وشأنهم، فلا تأسروهم، ولا تحصروهم، ولا تقتلوهم {الله غَفُورٌ} لهم {رَّحِيمٌ} بهم.
قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} يقال: استجرت فلاناً، أي طلبت أن يكون جاراً: أي محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم، أو يتعرّض لي متعرّض. و{أحد} مرتفع بفعل مقدّر يفسره المذكور بعده: أي وإن استجارك أحد استجارك، وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر. والمعنى: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره: أي كن جاراً له مؤمناً محامياً {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} منك ويتدبره حق تدبره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي: إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه، ووجوب قتله حيث يوجد، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من الأمر بالإجارة، وما بعده {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} أي: بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم} قال: هم قريش.
وأخرج أيضاً عن قتادة قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيّ الله زمن الحديبية، وكان بقي من مدّتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدّتهم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن عباد بن جعفر، في قوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم} قال: هم بنو جذيمة ابن عامر من بني بكر بن كنانة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} قال: كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد، فهو الذي قال الله {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين} قال: هؤلاء بنو ضمرة، وبنو مدلج، من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العُشَيْرة من بطن ينبع {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً} قال: لم يظاهروا عدوّكم عليكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} يقول: أجلهم الذي شرطتم لهم {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يقول: الذين يتقون الله فيما حرّم عليهم، فيوفون بالعهد. قال: فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحداً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {فَإِنَّهُ انسلخ الأشهر الحرم} قال: هي الأربعة: عشرون من ذي الحجة والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من ربيع الآخر. قلت: مراد السديّ أن هذه الأشهر تسمى حرماً لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال، لا أنها الأشهر الحرم المعروفة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، في الآية قال: هي عشر من ذي القعدة، وذو الحجة، والمحرم، سبعون ليلة.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد قال: هي الأربعة الأشهر التي قال: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
وأخرج ابن المنذر، عن قتادة، نحو قول السديّ السابق.
وأخرج أبو داود في ناسخه، عن ابن عباس، في قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ثم نسخ واستثنى. فقال: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُم} وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} يقول: من جاءك واستمع ما تقول. واستمع ما أنزل إليك، فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} قال: إن لم يوافقه ما يقصّ عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه، وهذا ليس بمنسوخ.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} أي: كتاب الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن أبي عروبة، قال: كان الرجل يجئ إذا سمع كتاب الله، وأقرّ به، وأسلم، فذاك الذي دُعي إليه، وإن أنكر ولم يقرّ به، ردّ إلى مأمنه، ثم نسخ ذلك، فقال: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} [التوبة: 36].

.تفسير الآيات (7- 11):

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} الاستفهام هنا للتعجب المتضمن للإنكار، وعهد اسم يكون، وفي خبره ثلاثة أوجه: الأوّل: أنه كيف، وقدم للاستفهام، والثاني: للمشركين، {وعند} على هذين: ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد؛ والثالث: أن الخبر عند الله، وفي الآية إضمار. والمعنى: كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به من عذابه، وقيل: معنى الآية: محال أن يثبت لهؤلاء عهد، وهم أضداد لكم مضمرون للغدر، فلا يطمعوا في ذلك ولا يحدّثوا به أنفسهم، ثم استدرك، فقال: {إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} أي: لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، ولم ينقضوا ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم، فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم {فاستقيموا لَهُمْ} قيل: هم بنو بكر، وقيل: بنو كنانة وبنو ضمرة، وفي {ما} وجهان: أحدهما: أنها مصدرية زمانية، والثاني: أنها شرطية، وفي قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين، فيكون تعليلاً للأمر بالاستقامة.
قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أعاد الاستفهام التعجيبي للتأكيد والتقرير، والتقدير: كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة لكم {لاَ يَرْقُبُواْ} أي: لا يراعوا فيكم {إِلا}: أي عهداً {وَلاَ ذِمَّةً}. قال في الصحاح: الإلّ العهد والقرابة: ومنه قول حسان:
لعمرك أن إلك من قريش ** كإلّ السقب من رئل النعام

قال الزجاج: الإلّ عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدة، ومنه الإلة للحربة، ومنه أذن مؤللة: أي محددة، ومنه قوله طرفة بن العبد يصف ناقته بالحدة والانتصاب:
مؤللتان يعرف العنق منهما ** كسامعتي شاة بحومل مفرد

قال أبو عبيدة: الإلّ العهد، والذمة والنديم.
وقال الأزهري: هو اسم لله بالعبرانية، وأصله من الأليل، وهو البريق، يقال ألّ لونه يوّلّ إلا: أي صفا ولمع، والذمة العهد، وجمعها ذمم، فمن فسر الإلّ بالعهد كان التكرير للتأكيد مع اختلاف اللفظين.
وقال أبو عبيدة: الذمة: التذمم.
وقال أبو عبيد: الذمة: الأمان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ويسعى بذمتهم أدناهم» وروي عن أبي عبيدة أيضاً أن الذمة ما يتذمم به: أي ما يجتنب فيه الذمّ. قوله: {يُرْضُونَكُم بأفواههم} أي: يقولون بألسنتهم ما فيه مجاملة ومحاسنة لكم، طلباً لمرضاتهم وتطييب قلوبكم، وقلوبهم تأبى ذلك وتخالفه، وتودّ ما فيه مساءتكم ومضرتكم، كما يفعله أهل النفاق وذو الوجهين، ثم حكم عليهم بالفسق، وهو التمرّد والتجري، والخروج عن الحق لنقضهم العهود، وعدم مراعلتهم للعقود، ثم وصفهم بقوله: {اشتروا بئايات الله ثَمَنًا قَلِيلاً} أي: استبدلوا بآيات القرآن التي من جملتها ما فيه الأمر بالوفاء بالعهود ثمناً قليلاً حقيراً، وهو ما آثروه من حطام الدنيا {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي: فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق، أو صرفوا غيرهم عنه.
قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} قال النحاس: ليس هذا تكريراً، ولكن الأوّل: لجميع المشركين، والثاني: لليهود خاصة، والدليل على هذا {اشتروا بئايات الله ثَمَنًا قَلِيلاً} يعني: اليهود، وقيل: هذا فيه مراعاة لحقوق المؤمنين على الإطلاق، وفي الأوّل: المراعاة لحقوق طائفة من المؤمنين خاصة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون} أي: المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد، أو البالغون في الشرّ والتمرد إلى الغاية القصوى {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام، {فَإِخوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانكم {فِى الدين} أي في دين الإسلام {وَنُفَصّلُ الآيات} أي: نبينها ونوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} بما فيها من الأحكام ويفهمونه، وخص أهل العلم لأنهم المنتفعون بها، والمراد بالآيات ما مرّ من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين على اختلاف أنواعهم.
وقد أخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} قال: قريش.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مقاتل قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد أناساً من بني ضمرة بن بكر وكنانة خاصة، عاهدهم عند المسجد الحرام، وجعل مدتهم أربعة أشهر، وهم الذين ذكر الله {إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} يقول: ما وفوا لكم بالعهد ففوا لهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ قال: هم بنو جذيمة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} قال: هو يوم الحديبية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} قال: الإلّ: القرابة، والذمة: العهد.
وأخرج الفريابي، وأبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: الإلّ الله عزّ وجلّ.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عكرمة مثله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {اشتروا بئايات الله ثَمَنًا قَلِيلاً} قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {فإن تابوا} الآية يقول: إن تركوا اللات والعزّى، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإخوانكم في الدين.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: حرّمت هذه الآية قتال أو دماء أهل الصلاة.